2?> اخبار اليمن فقيد الوطن صالح عبد الله الحبشي، عاش صامتاً ورحل دون ضجيج
   




  • اخبار محلية

    اخبار اليمن فقيد الوطن صالح عبد الله الحبشي، عاش صامتاً ورحل دون ضجيج


    808 قراءه

    2023-06-01 02:07:09

      المناضل الوطني القومي الكبير صالح عبد الله الحبشي، عاش حياته صامتاً، بعيداً عن الادعاء والمفاخرة، لا يتحدث عن شيء من نضاله وذكرياته. ثم رحل بصمت، لم يشعر برحيله كثيرون من أقرب أصدقائه إليه، غادر هذه الحياة الفانية، التي أدارت ظهرها له وغمطته حقه ولم تعطه سوى الإهمال والنكران والجحود وظلم القادرين على ظلم الآخرين.

    كان الفقيد من أوائل المنتمين إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، في بغداد، في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي. وقد حاولت أن أسجل بعضاً مما تبقى في ذاكرته من إسهاماته في العمل الوطني والقومي، وفي تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي، سواءً في العراق أو في الوسط الطلابي اليمني في مصر أو في اليمن، شماله وجنوبه، فلم أفلح. 

    وكنت قد كتبت بضع صفحات عن دوره، ضمن كتاب لم أنشره بعد، عرضتها عليه، ليضيف إليها أو ينقص منها، أو يصحح بعض المعلومات الواردة فيها. ولكني فوجئت بإلحاحه علي بأن لا أذكر شيئاً عن حياته، أو عن دوره في الحركة الوطنية وفي حزبه وفي ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م.

    ولم أكن الوحيد، الذي حاول أن يحصل منه على بعض التفاصيل المفيدة عن حياته وعن دوره في حزب البعث وفي ثورة 26 سبتمبر. ولكنه، بما جبل عليه من صمت وعدم اهتمام بتدوين شيء، ذي صلة بشخصه ودوره، اعتذر عن الكتابة أو الحديث، رغم إلحاحي، وإلحاح أصدقاء آخرين، منهم الأخ يحي محمد الشامي، رحمه الله، والأخ عبد الباري طاهر، أطال الله في عمره، وآخرون. وبعد جلسات كثيرة معه، في منزله وفي منزلي، بمدينة حدة السكنية، لم أتمكن إلا من تدوين معلومات زهيدة، وردت عفواً خلال أحاديث، حرصت على أن لا يشعر بأن الهدف منها تدوين شيء عن حياته. فحياته، كما عبر لي مراراً، ليست مهمة، في سياق سلسلة من الأحداث الجسام والكوارث الكبيرة، التي مر ويمر بها الوطن العربي. وهو رأي غير صحيح. فحياة الشخص عندما ترتبط بأحداث مفصلية في مسار التاريخ، بحجم وأهمية ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م مثلاً، ومن قبلها إنشاء تنظيم حزب البعث في العراق وفي مصر وفي اليمن، فإن تفاصيل حياته تتداخل بتفاصيل تلك الأحداث، بحيث يغدو تتبع سيرته الذاتية، بمثابة استكشاف لكثير من الزوايا المخفية أو المهملة، التي قد يؤدي الوقوف عليها إلى تغيير في الصورة التي وصلتنا عن تلك الأحداث، وفي إعادة تشكيلها، وإيصالها على نحو أقرب إلى الدقة، للأجيال القادمة التي لم تعاصرها ولم تعش وقائعها. 

    واليوم، وبعد رحيله الصامت، أجدني في حل مما وعدته به، بعدم الكتابة عنه، وملزماً أخلاقياً بأن أشير، ولو مجرد إشارات، إلى بعض منعطفات حياته، مع بعض عناوين بارزة في مسيرته النضالية. لا لأنه صديق ورفيق ومناضل كبير فحسب، تجاهله الجميع وتعرض لظلم وإهمال ونكران وجحود، ربما لم يتعرض له أحد من أمثاله، بل أيضاً لأن حياته، في جزء مهم منها، كانت مرتبطة ومؤثرة في أحداث تاريخية مفصلية، في مرحلة مهمة من مراحل التاريخ العربي المعاصر. مما يعني أن الحديث عن حياته، هو في جوهره حديث من شأنه أن يضيء بعض جوانب من أحداث ووقائع تاريخية لم يُسلط الضوء عليها بعد، كما من شأنه أن يثير تساؤلات، قد تحفز الباحثين والدارسين، على تناول تلك الأحداث والوقائع من زوايا جديدة لم تُطرق من قبل، بحثاً عن إجابات لها، لم يحاول أحد أن يقدمها حتى الآن.  

    عرفت الصديق صالح عبد الله الحبشي عن كثب في الكلية الحربية السورية، في مدينة حمص. ثم التقيت به بعد ذلك في عدن، قبيل الاستقلال وبعده. والتقيت به مجدداً في صنعاء في فترة لاحقة.  

    وتلخيصاً لما تمكنت من انتزاعه من هذا الصديق، الذي كان بخيلاً بالكلام، وما عرفته عنه من بعض أصدقائه ورفاقه: أنه ولد في مدينة شبام في حضرموت، عام 1937م. وأن أحد أقاربه، وهو التربوي المعروف حسين الحبشي، قدم مع أسرته إلى صنعاء واستقر فيها، ليكون قريباً من الإمام، الذي كان في نظره حاكماً مسلماً، يمكن العيش في كنفه. وقد غدا حسين الحبشي معروفاً لسكان صنعاء، في عقدي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي. وكلفه الإمام بإدارة جهاز التربية والتعليم. فكرس جهده لإدخال بعض العلوم الحديثة في المناهج الدراسية. وتمكن من الحصول على منح دراسية من الحكومة العراقية، استفاد منها بعض الطلاب اليمنيين، ومنهم بعض من أبناء حضرموت. وكان صالح عبد الله الحبشي واحداً من هؤلاء.  

    وسافر صالح إلى العراق في عام 1949م والتحق بإحدى مدارسها وواصل دراسته حتى السنة الأولى في كلية الطب. وقد انتظم في حزب البعث العربي الاشتراكي وهو طالب في المرحلة الثانوية في بغداد، فكان بذلك من أوائل البعثيين في تنظيم الحزب في العراق.  

    وفي عام 1956م نظم البعثيون مظاهرات في العراق، تأييداً لمصر ودعماً لصمودها في وجه العدوان الثلاثي، الذي شنته عليها بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، على إثر تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس. واصطدمت المظاهرات بأجهزة الأمن وضُرب فيها صالح ضرباً مبرحاً، لاسيما في رأسه، مما أفقده الوعي وأضعف قدرته على التركيز. ولم يستعد قدرته على التركيز إلا بصورة تدريجية وعبر أشهر طويلة من العلاج. وبسبب حالته تلك انتقل إلى مصر وحول دراسته من السنة الأولى طب إلى السنة الأولى حقوق. 

    وبعد تخرجه من مصر، في مطلع ستينيات القرن الماضي، قدم إلى صنعاء، حيث تولى قيادة منظمة حزب البعث في شمال اليمن، التي تأطر فيها مدنيون وعسكريون، ساهموا بالإعداد لثورة 26 سبتمبر 1962م. وقد ناقشت قيادة المنظمة، وعلى رأسها المناضل صالح الحبشي، توقيت انطلاق الثورة، بناءً على اقتراح من الرفاق العسكريين، الذين كان عدد منهم على رأس تنظيم الضباط الأحرار، واتخذت قراراً بذلك، كما حدثني الدكتور عبد العزيز المقالح، عضو قيادة منظمة الحزب حينذاك. وهذا يفسر الرسالة الشفوية، التي نقلها أبو جلال العبسي، إلى يحي الشامي في القاهرة، عن قرب قيام الثورة، والتي سأشير إليها لا حقاً. وكان يحي الشامي على رأس المنظمة الطلابية اليمنية للحزب في مصر. وكانت مصر في ذلك الحين تضم أكبر تجمع للطلاب اليمنيين في الخارج.  

    ومن أبرز أعضاء الحزب المدنيين في شمال اليمن، قبل قيام الثورة: صالح الحبشي والدكتور عبد العزيز المقالح وعبد الوهاب جحاف وعبد الوهاب الآنسي وعبد الله حمران. ومن أبرز أعضائه العسكريين، الذين تتردد أسماؤهم عادة: علي عبد المغني وناجي الأشول وعبد اللطيف ضيف الله وعلي الجايفي ومحمد مطهر زيد وأحمد الرحومي وغيرهم. ورغم أن الخصومات الحزبية القديمة مازالت تلقي بظلالها على تحديد أسماء العسكريين والمدنيين البعثيين المساهمين في الثورة، وتولد جدلاً حولها، فإن هذا الجدل يمكن أن يشكل حافزاً للمؤرخين الموضوعيين، للتدقيق في مجمل ما روي وكتب عن ثورة 26 سبتمبر. مع التسليم بأن جميع الشباب، الذين تصدروا ذلك الفعل الثوري، كانوا طليعة وطنية، بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية، وضعوا أرواحهم على أكفهم في لحظة تاريخية فارقة، في سبيل إخراج شعبهم من ظلمات العصور الوسطى إلى أنوار العصر الحديث.  

    وعندما قدمت القوات المسلحة المصرية إلى اليمن، لإسناد ثورة سبتمبر، مصحوبة بجيش من الخبراء المدنيين في مختلف المجالات التعليمية والاقتصادية والمالية والإدارية والأمنية ...إلخ، كان الخلاف العبثي غير المبرر، بين أهم تيارين قوميين في الوطن العربي في ذلك الحين، الناصري والبعثي، في أوجه. وكان لابد لشخص مثل صالح الحبشي، أن يدفع الثمن. رغم رفضه واستهجانه لذلك الخلاف، ويقينه بأنه خلاف يلحق الضرر بمجمل الحركة الثورية العربية. فترك صنعاء، التي لعب فيها دوراً مهماً في الإعداد لثورة سبتمبر، وتوجه صوب دمشق، حيث كان حزبه قد أصبح حاكماً فيها. ولكن رفاقه في دمشق كانت لديهم مشاغل كثيرة، صرفتهم عن الاهتمام برفاقهم القادمين من بؤر الصراع. فرأى أنه بحاجة إلى أن يشغل نفسه بشيء مفيد، وهداه تفكيره إلى الالتحاق بالكلية الحربية، وكان من أكبر الملتحقين سناً فيها. 

    ولم تمانع قيادات حزب البعث في سوريا في أن ترسل قائداً حزبياً كبيراً إلى الكلية الحربية، ليتحول إلى مجرد طالب ضمن مئات الطلاب فيها. وهكذا قدر لي أن ألتقي بالقائد الحزبي صالح الحبشي، داخل أسوار الكلية الحربية. ولم يكن أحد، حتى نحن الطلاب الضباط اليمنيين (كان مجموعنا ستة طلاب)، لم يكن أحد يعرف من هو صالح عبدالله الحبشي وما هو دوره. كان بالنسبة لنا مجرد طالب يمني يركض معنا طوال النهار، يصرخ في وجهه الطلاب المتقدمون ويعاقبونه، بشتى أنواع العقوبات رملاً وزحفاً ودعكلة ...إلخ، كجزء من الحياة اليومية في الكلية، ومن متطلبات التأهيل العسكري وتصليب الشخصية. وكان ينفذ العقوبات بانضباط عالي، ويضغط على ركبته، المصابة بالروماتيزم، من شدة الألم. لقد انتهى به الأمر إلى ساحات الكلية وتباب (خِرخِر)، القريبة من الكلية. وكان مكانه الطبيعي في صنعاء، في الموقع القيادي الذي يستحقه، لتستفيد منه الثورة، ويستفيد منه اليمن. ولكن هذه حال معظم الثورات. فالثورة، كما يُقال، يمهد لها المفكرون ويقودها الشجعان ويجني ثمارها الجبناء.

    وإذا ما أردت هنا، وبعد رحيل الصديق الرفيق المناضل الكبير صالح عبد الله الحبشي، إذا ما أردت أن أضيف شيئاً مما سمعته من بعض من زامله من رفاقه _ وما سمعته منهم ليس بالكثير _ فهو أن صالح، بعد أن عاش مرحلة تأسيس منظمة حزب البعث في العراق، انتقل إلى القاهرة، ليصبح على رأس التنظيم الطلابي اليمني لحزب البعث في مصر، وبقي مسؤولاً عنه حتى تخرج من كلية الحقوق بجامعة القاهرة، وعاد إلى صنعاء. وفي صنعاء باشر في قيادة تنظيم الحزب في الشمال، الذي لعب، بجناحيه المدني والعسكري، دوراً مهماً في ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، كما تقدم. ومما يؤكد هذا الدور، ما حدثني به القيادي البعثي المعروف، يحي محمد الشامي رحمه الله، الذي أصبح فيما بعد عضواً في المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني، عن إبلاغه بقرب قيام الثورة، في رسالة شفوية تلقاها وهو في القاهرة، من مسؤول الحزب في صنعاء، صالح عبد الله الحبشي. وقد تحدث يحي عن ذلك فيما بعد، في مذكراته الشفوية المنشورة، التي دونها الأستاذ سام أبو اصبع. وسأقتبس مما دونه الأستاذ أبو اصبع الآتي:

    " كان الذي يتحمل المسؤولية التنظيمية (في القاهرة) من اليمنيين صالح الحبشي وما زال يعيش إلى اليوم. كان شخصية عجيبة ودرس في سوريا وبعدها في القاهرة قبل عودته إلى صنعاء، وأتذكر أن رسالة شفوية جاءتني منه ذات طابع حزبي مع أبو جلال العبسي، الذي كان يقود التنظيم الشعبي في ثورة 14 أكتوبر، وكان يقول في الرسالة: "سنقوم بثورة، تابعوا الموضوع". ..... حملت هذه الرسالة إلى محسن العيني في مكتبه بمقر اتحاد العمال العرب، وكان حينها قد عمل في عدن وأرسله المؤتمر العمالي كممثل له في اتحاد العمال العرب، ولا أدري هل كان لديه فكرة عن موضوع الثورة في صنعاء حينها، لكنه علق حينها قائلًا: "إن شاء الله ما يكونش عندنا عقدة ذي يزن"؛ يقصد الاستعانة بالخارج...... كنت أعتمد على المرحوم عثمان عبدالجبار راشد، الذي كان يمتلك راديو في متابعة الأخبار القادمة من اليمن، وكان عثمان -رحمه الله- شخصية وطنية تقلد عددًا من المناصب وكان عضوًا في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني....... وذات يوم كانت حلقتنا الحزبية مجتمعة في منزلي، في حي المنيل، وجاءنا بواب العمارة يقول لنا: "يا يمنيين عندكم مشاكل في صنعاء، ثورة أو حاجة زي كذا". تحركت فورًا مع مجموعة من العناصر الحزبية وقمنا باحتلال السفارة اليمنية في القاهرة، وأعلنا تأييدنا لثورة 26 سبتمبر 1962، وأذيع البيان في إذاعة صوت العرب، وشكلنا لجان اتصال........ جميع الطلبة الذين كانوا في القاهرة شاركوا في اقتحام السفارة، وكان لتنظيم البعث صلة بالثورة في صنعاء، وكان متواجدًا بقوة في إطار الحركة الطلابية في القاهرة..... بعدها عُين محسن العيني وزيرًا للخارجية، وقمنا بفتح باب التطوع والذهاب إلى صنعاء لمساندة الثورة، لمعرفتنا أن ثورة 26 سبتمبر تعتمد على عدد محدود من الضباط والجنود. وصادف ذلك وجود طائرة خاصة ستقل محسن العيني، وهو في إطار البعث في تلك الفترة، إلى صنعاء، فتحركنا معه أنا وسيف أحمد حيدر وعبدالجليل سلمان وقاسم سلام وصالح العولقي- ابن السلطان عيدروس، وكان وطنيًّا وقام بحركة مناهضة للاستعمار البريطاني في العوالق". انتهى الاقتباس.  

     وقد يكون من المناسب أن أوضح بعض ما ورد في هذه الفقرات المقتبسة من مذكرات الأخ يحي الشامي. فصالح الحبشي لم يدرس في سوريا قبل انتقاله إلى القاهرة، بل درس في العراق وانتقل إلى القاهرة بعد أن ضُرب في المظاهرة البعثية في بغداد، كما ذكرت سابقاً. أما دراسته في سوريا، فقد كانت بعد تخرجه من كلية الحقوق بجامعة القاهرة وعودته إلى صنعاء، ثم مغادرته صنعاء إلى سوريا، بعد قيام ثورة سبتمبر، وكانت دراسة عسكرية، كما أسلفت. وأما محسن العيني، فلم يرسله المؤتمر العمالي في عدن إلى القاهرة، ممثلاً له في اتحاد العمال العرب، بل غادر عدن منفياً من قبل السلطات الانجليزية، كما هو معروف، وهو إجراءٌ كنا شهوداً عليه، كطلاب في المعهد العلمي الاسلامي، الذي كان محسن العيني أحد أساتذتنا فيه. ولم يعينه المؤتمر العمالي ممثلاً له في الاتحاد إلا بعد نفيه من عدن واستقراره في القاهرة. وأما أبو جلال العبسي، فاسمه محمد علي مقبل العبسي، وكان عضواً في حزب البعث، وقد أصبح فيما بعد، أي بعد ثورتي سبتمبر في الشمال وأكتوبر في الجنوب، أصبح في قيادة التنظيم الشعبي للقوى الثورية في عدن، الذي خاض الكفاح المسلح ضد الوجود الاستعماري، إلى جانب الجبهة القومية وجبهة التحرير. وأما عثمان عبد الجبار، فقد كان عضواً في حزب البعث، ثم أصبح عضواً في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني، بعد دمج معظم فصائل العمل الوطني فيه، ومنها منظمة حزب البعث، التي كانت قد انفصلت عن حزب البعث، واتخذت لنفسها اسماً جديداً (حزب الطليعة الشعبية).  

     وعندما عاد المناضل صالح الحبشي من سوريا إلى اليمن، بعد تخرجه من الكلية الحربية السورية، استقر في عدن، بعيداً عن منظمة حزب البعث في اليمن. حيث كان قد توصل إلى قناعة وهو في دمشق بالابتعاد عن الارتباط التنظيمي بالحزب، مع الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع رفاقه البعثيين، وأبلغ القيادة القومية للحزب بقرار الابتعاد خطياً، في رسالة اطلعني عليها قبل مغادرته دمشق، ولم تسلم للقيادة القومية إلا بعد مغادرته، قام بتسليمها رفيقنا الملازم محمد طه النكاع، رحمة الله تغشاه.

    ولعل الصراعات داخل الحزب في مستوياته القيادية، لاسيما بعد استلامه السلطة في كل من العراق وسوريا في عام 1963م (لم يدم حكم الحزب في العراق في ذلك العام سوى تسعة أشهر تقريبا، إذ سهلت تلك الصراعات الإطاحة به، قبل أن يعود إلى السلطة في عام 1968م)، لعلها قد أوصلت صالح إلى تلك القناعة. وهي صراعات عكست نفسها على منظمات الحزب القومية كلها، فأحدثت انقسامات فيها، أضعفتها جميعها، بما فيها منظمة الحزب في اليمن، التي تراجع دورها، بعد أن كان دوراً متميزاً، سواءً في قيادة الحركة التنويرية في حضرموت، أو في قيادة الحركة العمالية في عدن، أو في تفجير ثورة السادس والعشرين من سبتمبر في صنعاء. وزاد الخلاف الناصري البعثي، على المستوى القومي من إضعاف دور الحزب في اليمن، بل أدى إلى شيطنته، تحت تأثير بعض وسائل الإعلام العربية. وكان المناضل صالح عبد الله الحبشي وأمثاله ضحية من ضحايا ذلك الخلاف. فلم يلتفت أحد إلى دوره، وعانى ما عانى في حياته من نكران وجحود وإهمال. بل وتعرض للسجن والتعذيب في عدن بعد الاستقلال، من قبل جهات، يبدو أن من سوء حظه أنها لم تكن تجهل دوره ونضاله.

    وعندما غادر صالح عدن إلى صنعاء، حاول أن يزاول مهنة المحاماة، ولكنه سرعان ما تركها. فقد تكونت لديه سريعاً، كما حدثني بنفسه، تكونت لديه قناعة بأن منظومة القضاء لا تساعد على ممارسة مهنة المحاماة، دون أن يلج من يمارسها في دائرة الفساد ويعتاد عليه. لذا نأى بنفسه عنها.

    بعد ذلك عمل في شركة التبغ والكبريت، التي كان على رأسها رفيقه عبد الواحد هواش، ثم مستشاراً قانونياً لمركز الدراسات والبحوث اليمني، الذي كان يديره رفيقه الدكتور عبد العزيز المقالح. ولكنه ترك الوظيفتين وراءه وترك معهما مستحقات مالية، لم يتمكن من الحصول عليها، حتى اختاره الله إلى جواره.  

    ومما أتذكره في هذا السياق أنني حاولت، بعد توقف الصديق صالح عن مزاولة أي عمل وظيفي، حاولت مع بعض من رفاقه القدامى، ومنهم يحي الشامي وعبد العزيز المقالح وعبده علي عثمان، أن نستصدر قراراً رئاسياً بضمه إلى قائمة المناضلين، الذين كان كل منهم يتلقى مبلغاً شهرياً، يساعده على تحمل أعباء الحياة. فكتبت التماساً إلى رئيس الجمهورية، وقع عليه رفاقه المذكورون، ووقع معهم آخرون، لم أعد أتذكر أسماءهم. ولكن تلك المحاولة لم تنجح، سوى في صرف مبلغ من المال للعلاج وتذكرتي سفر، له ولمرافق واحد معه. وبقي صالح منزوياً في منزله، رهين الإهمال والجحود، يعيش ظروفاً معيشية صعبة، رضي بها وتعايش معها، ولم يسقط كما سقط آخرون غيره. 

    وكان يمكن لأي شخص يتجول عصراً في شوارع مدينة حدة السكنية، أن يصادف في طريقه رجلاً نحيلاً، يسير مرفوع الرأس، بخطوات واثقة، ولكنها واهنة، تحت ثقل سني العمر الطويلة والصعبة، وتأثير الروماتيزم، الذي ظل ملازماً لركبته. فإذا ما عرفته واستوقفته، وقف يحييك بوجه بشوش وابتسامة طفولية، ويرد بلطف واقتضاب على سؤالك عن صحته، إذا ما سألته، ثم يواصل مشواره اليومي، دون أن يلتفت إلى أحد أو يلتفت إليه أحد، وكأنه لم يكن قائداً كبيراً ذات يوم، ندين له بالكثير، كما ندين لأمثاله من المناضلين الطيبين، الأوفياء لوطنهم وشعبهم. 

    رحم الله المناضل الكبير، الصديق صالح عبد الله الحبشي، الذي عاش عفيفاً وغادر دنيانا طاهراً نظيفاً، دون ضجيج أو صخب. ومهما اعتذرنا عن تقصيرنا نحوه، فلن يجدي اعتذارنا المتأخر شيئاً. وربما قد نجد شيئاً من العزاء، إذا ما اهتم باحثون جادون من أبنائنا بسيرته، وكرسوا بعضاً من وقتهم وجهدهم، لتتبع تفاصيل حياته ونضاله، إنصافاً له ولجيله، وإنصافاً للتاريخ اليمني والعربي المعاصر.

    صنعاء، 31 مايو 2023م

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     



    مصادر 24 قارئ إخباري مستقل حيث والمواد الواردة فيه لا تعبر عن رأي الموقع ولا يتحمل اي مسؤولية قانونية عنها  
    جميع الحقوق محفوظة لدى مصادر 24